لا يكاد أحد يلمح مشهدا أو صورة تجمع وفدا فلسطينيا مفاوضا مع إسرائيليين إلا وكان الدكتور صائب عريقات يطل فيه أو عليه تارة في المقدمة مصافحا مبتسما وأحيانا في الخلفية مراقبا أو متجهما أو مصفقا.
لم يخض فلسطيني مفاوضات مع الإسرائيليين قدر ما خاض عريقات الذي يقدم نفسه باعتباره كبير المفاوضين الفلسطينيين، ويقدم إعلاميا باعتباره مسؤول المفاوضات في منظمة التحرير. خبرات عريقات التفاوضية جمعها في كتابه "الحياة مفاوضات".
لمع عريقات وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد للسلام أواخر العام 1991، بدا يومها واحدا من "صقور" منظمة التحرير ضمن الوفد الفلسطيني الأردني المشترك.
وأدت كوفيته التي أصر على وضعها حول عنقه باعتبارها رمزا لمنظمة التحرير إلى عاصفة احتجاج إسرائيلية انتهت بإخراجه من قاعة افتتاح المؤتمر.
يبدي الدكتور حبا للتعاطي مع وسائل الإعلام، واهتماما كبيرا بالصورة التي تنقلها عنه، وهو ما يدفعه ربما لتبني مواقف قد تبدو متعارضة.
ففي اللقاء الثلاثي الأخير الذي جمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بدا عريقات متحفظا تجاه وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان.
وتقول الصحف الإسرائيلية إن عريقات تجنب مصافحة ليبرمان أثناء وجود المصورين لكنه حين خرج المصورون من القاعة اقترب بدبلوماسيته الرفيعة ليصافح ليبرمان ويخاطبه باللغة العبرية متمنيا له سنة يهودية جيدة وسعيدة.
المفاوض الفلسطيني المولود يوم 28 أبريل/نيسان 1955 في أريحا بدا كمن اختار دربه مبكرا، فعريقات أنجز أطروحته الجامعية العليا في دراسات السلام، وفي كتابه يؤكد أنه "ما دامت الصراعات حتمية فإن المفاوضات حتمية".
ويصف رئيس جامعة النجاح الوطنية الدكتور رامي الحمد الله الكتاب بأنه "من أهم الكتب السياسية" في الوقت الراهن لأنه ثمرة "تجربة طويلة ومريرة تتصف بالحكمة والثبات والتصميم".
يصر عريقات وهو كاتب عمود سابق في صحيفة القدس المقدسية 12 عاما، على أن "المصالح هي ما تحرك الشعوب"، وأن الحديث بلغة المصالح هو سبيل الفلسطينيين لانتزاع وطن تاهوا طويلا وهم يبحثون عنه.
سافر في سن السابعة عشر إلى سان فرانسيسكو ودرس العلوم السياسية في جامعتها الحكومية عام 1977، وبعد عامين حاز درجة الماجستير من الجامعة نفسها.
عاد عام 1979 ليعمل محاضرا في جامعة النجاح قبل أن يحصل على منحة لإكمال دراساته العليا في جامعة برادفورد البريطانية.
نال درجة الدكتوراه عام 1983 وكانت أطروحته حول دور أوبك في الصراع العربي الإسرائيلي.
قال لاحقا إنه تعلم في برادفورد أن لا حل عسكريا للصراع، وأن السبيل الوحيد لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي هو المفاوضات.
ما تعلمه عريقات في برادفورد عبرت عنه مقالة نشرها عام 1982 وتضمنت دعوة إلى فتح حوار بين الأكاديميين الفلسطينيين والإسرائيليين، أثارت تلك الدعوة احتجاجات كبيرة في جامعة النجاح وقاطع الطلاب فصوله الدراسية واتهموه بخيانة القضية الفلسطينية.
واصل عريقات المضي قدما فيما يراه "درب السلام"، ففي العام 1983 افتتح برنامجا للتبادل الأكاديمي ودعا طلبة إسرائيليين من جامعة تل أبيب لحضور فصول دراسية في جامعة النجاح.
أثارت تصرفات عريقات استياء الطلبة في وقت لم تكن فيه شعارات السلام والتسوية قد استقرت على أرض صلبة ولم تكن تجد رعاية علنية من قيادة منظمة التحرير، واتهم من جديد بالخيانة.
لم تعق تلك الاتهامات عريقات عن التقدم في صفوف القيادة الفلسطينية الشابة لا سيما أن الحاجة لأكاديميين شبان قادرين على مخاطبة الغرب بدت لقيادة منظمة التحرير ضرورة لاستكمال التحول والانعطاف إلى دروب السياسة والتسوية.
انضم عريقات مع حنان عشراوي وسري نسيبة لفريق القيادي في منظمة التحرير فيصل الحسيني في جمعية الدراسات العربية، التي كانت واجهة لإدارة نشاط المنظمة في القدس.
|
صائب عريقات يبكي لحظة وصول جثمان أحد قادة فتح
|
ومن الجمعية واصل عريقات مساره ليغدو واحدا من أبرز وجوه المرحلة الجديدة ومنظري مسيرتها، ومن موقعه كمفاوض رئيسي ثم كبير للمفاوضين ووزير للمفاوضات، وهو منصب استقال منه قبل أن يعود ليمارس دوره بمسميات مختلفة، شارك في كل المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. ورغم ثقة عريقات بخبراته التفاوضية فإن ثمار تلك المفاوضات على الأرض لا تعجب كثيرا من الفلسطينيين كما يبدو.
تخلى عن دبلوماسيته وشغفه الدائم بالمفاوضات أثناء المواجهة بين حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والتحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وبدا من "صقور" فتح في ذاك الصراع.
اعتبره الدكتور محمود الزهار "مهرجا" وأطلق عليه لقب "بهلول" للسخرية منه وربما من طريقته في الحديث، لكن عريقات ظل عضوا رئيسيا في فريق عباس مصرا على أن المفاوضات وحدها قادرة على أن تنتزع للفلسطينيين وطنا من مخالب إسرائيل، طال الزمان أو طال أكثر.